يشهد التحكيم في منازعات العمل في المملكة العربية السعودية حيزاً متنامياً ضمن جهود الإصلاح القضائي ورؤية 2030 لبناء بيئة أعمال مرنة وجذابة و حل منازعات العمل . فقد ألغيت في عام 1435هـ إجراءات التسوية العمالية التقليدية لمصلحة القضاء العمالي المتخصص، مع إبقاء مجال التحكيم كخيار بديل متاح للأطراف ضمن الإطار النظامي الجديد.
وتسعى رؤية 2030 إلى تعزيز الثقة في المنظومة القانونية من خلال تسريع الفصل في المنازعات وتحفيز بيئة تنافسية، حيث يعتبر التحكيم أداة إضافية فعالة تسهم في حل النزاعات بسرعة وكفاءة ودون فرض أعباء إجراءات قضائية مطولة.
مشروعية التحكيم في منازعات العمل
وفق نظام التحكيم الصادر بالمرسوم الملكي (م/34) لعام 1433هـ الذي وضع إطاراً قانونياً واضحاً للتحكيم.
فقد ألزم المحكمة التي يرفع إليها نزاع فيه شرط تحكيم مكتوباً بالامتناع عن النظر في الدعوى حال دفع المدعى عليه بوجود شرط التحكيم قبل أي طلب أو دفع في الدعوى.
وبذلك يصبح اتفاق التحكيم الموثق كتابياً ملزماً للجهات القضائية وهيئات التحكيم طالما استوفى أركانه وشروطه النظامية.
بناءً على ذلك، فإن التحكيم في المنازعات العمالية مقبول من الناحية النظامية ومُحترَم قضائياً، ولا يوجد نص صريح يحظره؛ فغياب المنع يُفهم منه الإباحة المشروطة بضوابط النظام العام وحماية الحقوق المقررة .
ومن الجدير بالذكر أن نظام التحكيم يلزم أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً وإلا فهو باطل.
كما يشترط أن تكون الأطراف (أهل للتصرّف في حقوقها (ولا يجوز للجهات الحكومية إبرامه إلا بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء.
أنواع منازعات العمل والتحكيم
- تقليدياً، تندرج منازعات العمل تحت فئتين رئيسيتين:
الفردية (بين عامل وصاحب عمل محددين).
الجماعية (متعلقة باتفاقات جماعية أو مؤسسات عمالية).
لم يفرّق نظام العمل السعودي في مراحله السابقة بين هاتين الفئتين من حيث آليات التسوية القانونية.
- عملياً، يجري حل المنازعات الفردية عبر مرفق القضاء العمالي أو التحكيم عند الاتفاق، شريطة احترام ما أوجبه النظام العام من حقوق أساسية للعامل (كالأجور وبدلات نهاية الخدمة).
أما المنازعات الجماعية الحديثة – مثل منازعات النقابات أو الإضرابات – فغالباً ما تخضع لتنظيمات خاصة أو تسويات ادارية، وتُعتبر حقوق العمال الأساسية فيها غير قابلة للتراضي وفقاً للضوابط الشرعية والنظامية.
لذلك، فإن دور التحكيم في النزاعات الجماعية محدود، ويُفضّل اللجوء إلى آليات رسمية بديلة ما لم يُنص على خلاف ذلك في النظام.
الشروط النظامية لقبول التحكيم في منازعات العمل
يتطلب قبول اللجوء إلى التحكيم في منازعة عمل توافر الشروط والأركان العامة لأي اتفاق تحكيم.
من أبرز هذه الشروط:
- وجود اتفاق تحكيمي كتابي ومُعبّر:
يجب أن يتضمن عقد العمل شرطاً تحكيمياً واضحاً، أو أن يبرم الطرفان لاحقاً مذكرة تحكيم كتابية حول النزاع.
- الأهلية القانونية والأهلية للتصرف:
يشترط أن يكون الطرفان قادرين على التصرف في حقوقهما، وبالنسبة للقطاع العام يلزمه موافقة رئاسة الوزراء بإبرام الاتفاق.
- الامتثال للنظام العام وضوابط الشريعة:
لا يجوز أن يخالف اتفاق التحكيم أحكام الشريعة الإسلامية أو النظام العام في المملكة.
- وتفرض المادة 38 من نظام التحكيم أن تحكم هيئة التحكيم وفقاً للقواعد الاتفاقية دون المساس بالنظام العام.
وبذلك يُستبعد أي شرط تحكيم يتضمن تنازلاً عن حقوق نظامية أساسية للعامل، وإلا كان باطلاً.
- التقيد بمقتضيات المادة 7 من نظام التحكيم:
يلزم تقديم اعتراض فوري في التحكيم إذا علم أحد الطرفين بوجود مخالفة لأحكام النظام أو للشروط، وإلا يعتبر قد تنازل عن حقه في الاعتراض.
- التزام الإجراءات النظامية:
يجب أن تتم إجراءات التحكيم وفقاً لنظام التحكيم ولوائحه التنفيذية (كالامتثال للمهل المحددة ولأصول دعوى التحكيم).
هذه الشروط تضمن أن يكون التحكيم في منازعات العمل خياراً حقيقياً لا شكلياً، يحفظ حقوق الطرفين ولا يستغل الوضع القانوني الأضعف للعامل.
القيود والاستثناءات على التحكيم
يحمي النظام السعودي الحقوق العمالية من أن تكون موضوعاً لأي تسوية تعسفية.
على سبيل المثال، لا يجوز أن يستخدم التحكيم للإخلال بالحد الأدنى المقرَّر من حقوق العامل؛
فإذا تضمن شرط التحكيم تنازلاً صريحاً أو ضمنياً عن أي حق منصوص عليه في نظام العمل (كالتنازل عن الأجر المستحق أو تعويض نهاية الخدمة)، يعتبر شرطاً مخالفاً للنظام العام.
وبالمثل، فإن هناك مسائل تُعدُّ غير قابلة للتحكيم بحسب نظام التحكيم (مثل الحقوق المقرّرة شرعاً ونظاماً التي لا يجوز التصرف بها)،
بحيث تسقط صلاحية هيئة التحكيم في الفصل فيها.
بشكل عام، تحيط القوانين السعودية التحكيم بسياج من ضوابط النظام العام لحماية العامل كطرف أضعف،
لا سيما في المسائل الجوهرية التي تمس علاوة الأجر والضمان الاجتماعي وأمور التعويض عن الإصابات.
هذه الحدود تهدف إلى ضمان أن يبقى التحكيم آلية عادلة، لا أداة للتملص من الالتزامات النظامية.
التحكيم القضائي والتحكيم المؤسسي
التحكيم المؤسسي
هو اللجوء إلى مراكز متخصصة تقدم قواعد وقضاته (محكمين) وخدمات إدارية لتنظيم الدعوى التحكيمية.
على سبيل المثال، أصبح بإمكان الأطراف اختيار المراكز المعتمدة التي تعمل وفق معايير دولية، مما يوفِّر إطاراً محكماً للإجراءات ويسرّع الفصل بالنزاع.
التحكيم (الحر أو القضائي)
في المقابل يعتمد على اتفاق الطرفين دون إطار مؤسسي؛ حيث يدير الأطراف أو المحكمون المنزوعون من المحكمة الإجراءات بأنفسهم.
قد تستعين المحكمة بتعيين المحكّمين في حال عدم اتفاق الطرفين.
الفروق بينهما تكمن في توافر الموارد والإشراف: فالمؤسسي يضمن تحديد موعد الجلسات وسقف زمني للإجراءات ورسوم معلوم،
بينما يتيح التحكيم الحر للاتفاق على تفاصيل الإجراءات بحرية أكبر لكن يتطلب جهداً أكبر من الأطراف في التفاوض على القواعد.
في جميع الأحوال، تضبط اللوائح النظامية إجراءات كلا النوعين، ويحق للأطراف الاتفاق على اللجوء لأي منهما ما دامت الشروط النظامية مضمونة.
إجراءات التحكيم ومراحلها
يبدأ التحكيم عادة بتقديم أحد الطرفين طلب المنازعة التحكيمية (طلب التحكيم) إلى الجهة المختارة أو المحكمة المختصة (في حال التحكيم “الحر”).
في حال التحكيم المؤسسي (باختيار مركز معتمد)، يقوم المركز الإداري بتسجيل الطلب وتبليغ الطرف الآخر مع استيفاء الرسوم.
بعد ذلك، يتم تشكيل هيئة التحكيم باتفاق الطرفين (مثلاً، تعيين محكم واحد أو ثلاثة محكمين طبقاً للاتفاق)،
وفي حال تعذّر الاتفاق تقوم المحكمة بتعيين المحكمين بناءً على طلب من أحد الطرفين.
- تعقد هيئة التحكيم جلسات الاستماع لاستقبال مرافعات الطرفين وإطلاع المحكمين على المستندات والدفوع.
- تصدر الهيئة “حكم التحكيم المنهي” في النزاع خلال المهلة المتفق عليها أو خلال 12 شهراً إذا لم يُحدَّد موعد، مع إمكانية طلب تمديد مدة التحكيم شهوراً إضافية وفق الضوابط.
- يجب أن يكون قرار الحكم مسبباً وموقعاً من المحكمين.
- بعد صدور الحكم، تسلّم الهيئة صورة منه إلى كل طرف خلال 15 يوماً، وتودع نسخة أصلية (أو مصدقة) لدى المحكمة المختصة خلال 15 يوماً أيضاً.
- يتوجّب على من يطلب تنفيذ الحكم تقديمه إلى المحكمة مع اتفاق التحكيم والترجمة العربية المصدقة إذا كان بلغة أجنبية.
- تطبق المحكمة إجراءات خاصة بفحص الحكم من حيث التوافق مع أحكام الشريعة والنظام العام قبل إصدار أمر بالتنفيذ أو رفضه.
مزايا التحكيم في منازعات العمل
يقدم التحكيم في النزاعات العمالية عدداً من المزايا العملية مقارنة بالدعوى القضائية التقليدية، منها:
- السرعة والمرونة:
إذ غالباً ما تُختصر فترات الفصل في نزاع عمالي بالتحكيم مقارنة بالمحاكم، ويمكن للأطراف تحديد جدول زمني مناسب لجلسات التحقيق وحصر المطالب بصورة أسرع.
كما تسمح للأطراف بتصميم إجراءات مرنة تتناسب مع خصوصية القضية، مثل اختيار عدد المحكّمين أو تحديد أسلوب الاستماع.
- السرية:
تسير إجراءات التحكيم بسرية تامة، ويحكم المحكمون عادة بأن يلتزموا بعدم إفشاء المعلومات المطروحة في النزاع.
هذه السرية قد تكون مهمة للشركات في قضايا حساسة، حيث لا تُنشر تفاصيلها كما في الأحكام القضائية العلنية.
- الأطراف الخبيرة:
يتيح التحكيم اختيار محكّمين متخصصين في القانون العمالي أو صناعة النشاط التجاري للطرفين،
مما يساهم في فهم أعمق للجوانب الفنية للنزاع وسرعة البت فيه.
- تقليل التكاليف (نسبياً):
بالرغم من أن التحكيم قد يستلزم رسوماً، إلا أنه من الناحية العملية قد يوفر تكاليف إضافية بالمقارنة مع الإجراءات القضائية المطولة خصوصاً في القضايا المعقدة.
- التنفيذ الدولي:
حماية لرؤوس الأموال الأجنبية، تنظم الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية نيويورك (1958) تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية.
هذه المزايا تجعل التحكيم خياراً استراتيجياً للشركات التي تسعى إلى حل منازعاتها العمالية بشكل أسرع وأكثر خصوصية وكفاءة.
خاتمة
إن التحكيم يمثل خياراً استراتيجياً مهماً للأطراف في منازعات العمل داخل المملكة، حيث يسمح بحل النزاعات بمرونة تتناغم مع متطلبات رؤية 2030 لبيئة أعمال جاذبة وفعّالة.
وبتوفُّر الضمانات النظامية اللازمة – من احترام أحكام الشريعة والنظام العام وحماية حقوق العامل .
يمكن للمؤسسات السعودية والأجنبية على حد سواء أن تسلك طريق التحكيم بثقة تامة كأحد حلول فض المنازعات العمالية الموثوقة.
في ضوء ذلك، يُعد التحكيم أداة قانونية تكميليّة تحظى بقيمة استثمارية عالية في إدارة النزاعات العمالية والحدّ من تكاليف الخلاف القضائي التقليدي،
مع توفير بيئة أكثر خصوصية وسرعة للفصل في النزاع بما يخدم تطلعات نظام المملكة.
توفر شركة المشورة للمحاماة خبرة قانونية متخصصة في التمثيل امام جهات التحكيم المختلفة ، وصياغة شروط التحكيم، وإجراءات تسوية المنازعات،
والاستشارات التشغيلية لضمان إدارة النزاعات العمالية بكفاءة واحترافية وفق أحدث الأنظمة السعودية.