أقدمت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة على خطوات واسعة نحو تحديث أنظمتها القضائية، عبر سن أنظمة جديدة وتطوير آليات التقاضي، بما يعزز من كفاءة العدالة ويحفظ الحقوق. 

تعمل المملكة حاليًا على الوصول إلى “تقنين موحد لقانون العقوبات”، ولكن حتى إقراره النهائي تُدار العدالة الجنائية بواسطة مجموعة من الأنظمة المتفرقة التي تعالج أنواعًا مختلفة من الجرائم إلى جانب أحكام الشريعة الإسلامية. 

وقد أسهم هذا النهج في توفير مرونة للتعامل مع الجرائم المختلفة، إلى جانب التحديات المتعلقة بتوحيد الاجتهاد. 

في هذا المقال، نستعرض كيفية إدارة العدالة الجنائية في ظل هذا الغياب للتقنين الموحد، مع الإشارة إلى الآليات والبدائل والأمثلة العملية المتبعة في المملكة العربية السعودية

أولًا: ما المقصود بغياب التقنين الموحد ؟

المقصود هنا هو عدم وجود قانون جزائي شامل ومقنن يضم جميع الجرائم والعقوبات في وثيقة واحدة.
لكن هذا لا يعني غياب المعايير أو ترك الأمور للاجتهاد المطلق، بل إن النظام القضائي السعودي يعتمد على:

1. الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي

القضاء السعودي يستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وتحديدًا المذاهب الفقهية (بالأخص المذهب الحنبلي).

: الجرائم تصنف في الغالب إلى

  • جرائم الحدود (كالزنا، السرقة، الحرابة) وهي محددة بنصوص شرعية
  • القصاص والديات (القتل والجرح وما في حكمهما).
  • التعزير (كل ما لم يرد فيه نص محدد)، ويُترك تقديره للقاضي.

وتنقسم العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية إلى: 

  • تعزيرات مقيدة: منصوص على نوعها أو حدّها الأدنى أو الأعلى في أنظمة محددة. 
  • تعزيرات مرسلة: يُترك تحديدها للقاضي وفقًا لاجتهاده، بما يراعي طبيعة الفعل وظروف الجاني.

وهنا يظهر التحدي الأكبر في غياب تقنين موحد للتعزير، لأن العقوبات قد تختلف من قاضٍ لأخر في نفس الوقائع.

 2. الأنظمة واللوائح التنظيمية القطاعية

في غياب تقنين موحد، صدرت أنظمة جزئية تختص بجوانب محددة من العدالة الجنائية، منها:

  • نظام مكافحة جرائم المعلوماتية
  • نظام مكافحة غسل الأموال
  • نظام مكافحة الجرائم التمويلية
  • نظام مكافحة الإرهاب
  • نظام الإجراءات الجزائية (ينظم سير الدعوى الجنائية من التحقيق إلى التنفيذ)

هذه الأنظمة تُعتبر بمثابة “قوانين جزئية” تُغطي بعض الجرائم وتحدد عقوباتها بدقة.

3. سلطة القاضي في العقوبة التعزيرية

▪️  في الجرائم التي لا يوجد فيها حد شرعي أو نص نظامي، تُترك تقديرات العقوبة للقاضي وفقًا لقواعد الشريعة.
▪️  هذا يسمى “التعزير” وقد يشمل الحبس، الغرامة، التوبيخ أو التنبيه العلني ( كالإعلان عن الحكم في الصحف) ، العزل من الوظيفة، الإقامة الجبرية.

لكن هذه السلطة قد تؤدي إلى تفاوت في العقوبات لنفس الجريمة من محكمة إلى أخرى.

 4. دور النيابة العامة كضابط إجرائي

▪️  النيابة العامة، وفق نظامها، تتولى تحريك الدعوى الجزائية والتحقيق.

ملتزمة بالنصوص النظامية الصادرة، وتستند إلى المبادئ القضائية المستقرة.

مثلًا: في جرائم السب والقذف الإلكتروني، تستند النيابة لنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية وتوجه الاتهام بناءً عليه.

 5. السوابق القضائية والمبادئ العامة

▪️  على الرغم من عدم إلزامية السوابق القضائية، إلا أن المبادئ الصادرة عن المحكمة العليا تُستخدم كمراجع مهمة.
▪️  بعض المحاكم تميل إلى الاستئناس بما استقر عليه القضاء الأعلى لضبط نطاق العقوبات وتبرير الأحكام.

  • أمثلة عملية:

جريمة التحرش:
قبل صدور نظام مكافحة جريمة التحرش (2018)، كانت تُعاقب تعزيرًا وفق اجتهاد القضاة.
أما الآن، فالنظام يحدد العقوبة بالسجن والغرامة، مما ساهم في توحيد التطبيق.

جريمة التزوير الإلكتروني:
تُعالج حاليًا وفق نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، لأن النظام الجنائي العام لا يتضمن نصًا موحَّدًا لهذه الجريمة.

قضايا السب والشتم عبر وسائل التواصل:
تُحال إلى المحكمة الجزائية العامة، ويتم النظر فيها بناءً على النظام المعلوماتي والنظام العام والتعزير.

ثانيًا: أثر غياب التقنين على مبدأ الشرعية الجنائية

ينص نظام الحكم الأساسي في المادة (26) على مبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، بوصفه أحد الضمانات الدستورية لحماية الحقوق والحريات. 

ومع ذلك، فإن غياب قانون عقوبات موحّد ينتج عنه: 

  • اختلاف تفسير القضاة والفقهاء للجرائم التعزيرية وعقوبتها.
  • تفاوت الأحكام والعقوبات في القضايا المتشابهة بين المحاكم. 
  • غموض العقوبات المتعلقة بالأفعال المستجدة مثل الجرائم الإلكترونية قبل صدور نظام الجرائم المعلوماتية.

النتيجة:  تضعف درجة التوقع القانوني لدى المتقاضين، مما يستدعي الإسراع في تقنين واضح وشامل يعزز مبدأ الشرعية ويحمي المتقاضين.

ثالثاً : الموازنة بين الشريعة وضرورات التقنين

  • كثير من العلماء والقانونيين يرون أن تقنين العقوبات التعزيرية لا يتعارض مع الشريعة، بل هو من باب تنظيم الاجتهاد وضبطه.
  • مع الإبقاء على ثوابت الحدود والقصاص كما هي، يمكن تقنين التعزير لضمان العدالة والثبات.

رابعًا : آليات الإدارة القضائية للعدالة الجنائية 

رغم غياب قانون موحد، فإن المملكة طورت بنية قضائية متخصصة، مثل إنشاء محاكم جزائية، وتوسيع صلاحيات النيابة العامة، واعتماد التحقيق الإلكتروني والضبط الجنائي المرئي، مما حسن من سرعة الإجراءات. 

كما أن المحكمة العليا تلعب دورًا مهمًا في توحيد المبادئ من خلال “قرارات سابقة” تُسترشد بها المحاكم.

خامساً : كيف تُعالج المملكة هذا التحدي؟ (إصلاحات حالية ومقترحة)

  1. التحول التدريجي نحو التقنين
    • أعلنت هيئة حقوق الإنسان ووزارة العدل في السنوات الأخيرة عن مشاريع لتقنين أحكام الشريعة في موضوعات: الأحوال الشخصية، العقوبات، الإثبات.
  2. نظام الإجراءات الجزائية
    • صدر أولا عام 2001 وتم تحديثه عام 2014، ويوفر إطارًا مهمًا لإجراءات التحقيق والمحاكمة والضمانات، لكنه لا يتضمن توصيفًا شاملاً للجرائم.
  3. توسيع نطاق الأنظمة الخاصة
    • مثل: مكافحة التحرش، الجرائم المعلوماتية، غسل الأموال، وهي أنظمة حديثة تغطي فجوات قانونية مهمة.

رغم عدم وجود قانون عقوبات موحد في المملكة العربية السعودية حتى اليوم، إلا أن المملكة تعمل بخطى متسارعة لتطوير المنظومة العدلية وتقنين الجوانب المختلفة منها. 

إن وجود قانون جنائي شامل يُعد خطوة ضرورية لتعزيز الشفافية، وتحقيق العدالة، وتوحيد الاجتهادات القضائية، خاصة في مجتمع متغيّر وسريع التطور كالمملكة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *